: تحت ظلال الزيتون .. من”حقيبة ظهر” الأديبة دعاء الجابي

almessa 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

»»

معين إبداعات أدباء أرض الكنانة كالنهر الفياض لن ينضب أبدا ،ومن مجموعتها القصصية(حقيبة ظهر) الصادرة عن دار إشراقة أهدت منصة “المساء أون لاين” قصتها..
“تحت ظلال الزيتون” ننشرها عبر هذه السطور..
????

تقول الكاتبة دعاء الجابي “ليس على غرار المنفلوطي أردتُ أنْ أسمِّي هذه القصة، لكن ما حدث حقًّا كان تحت ظلال شجرة زيتون عملاقة وعتيقة.

????
……..
تحت ظلال الزيتون

بعد رحلة طويلة مع الحياة، والِانتقال من حال إلى حال، وتوقُّع الدهشة واللادهشة، ونجاح مرة وفشل ألف مرة، وسقوط كافَّة معارفي من قلبي إلَّا قليل، والدوران مع طاحونة الحياة، قرَّرْت أن آخذ هدنة لبعض الوقت أحاول أن ألتقط فيها أنفاسي، لست أدري لماذا في هذا الوقت بالذات أخذني الحنين إلى شجرة الزيتون التي كانت شاهدة هناك، ربَّما لأنَّ صديقي الفلسطينيَّ عندما تحدَّث معي آخر مرة ذكر أنَّ شجر الزيتون يُعدُّ ثروة معنويَّة كبيرة لكلِّ بيت فلسطيني؛ فهو رمز للصمود وشدَّة الصبر، أبديت موافقتي وفي ذهني صورة حقيقيَّة من الماضي تُثبت صحة كلامه؛ لذا قرَّرْت أن أعود إلى القرية وأنْ أسأل تلك الشجرة عن أشياء قد ماتت بالفعل، لكن مَفعولها لا يزال يسري بداخلي..

جرَّبتَ أنْ يتبدَّل هواؤك النقيُّ بآخر فاسد؟ كان هذا شعوري يومها، انتظرتُ طويلًا تحت شجرة الزيتون، انتظرتُ حتى مَلَّني الِانتظار، لم يأتِ في ذلك اليوم كما تعوَّدنا، ولمْ يأتِ بعدها أبدًا، لا زالت تلك الجملة التي قالها في لقائنا الأخير ترقص في أذني حتى الآن:


ربَّما نعيش في بيئة أصغر من حجمنا بكثير، ولعلَّ هذا ما يحول بيننا وبين نمونا؛ نمونا الفكري، النفسي، والِاجتماعي، إنَّنا بحاجة لأنْ ننسلخ من هذا المحيط حتى لا نتعَفَّن من هذا الركود الخانق.

ولأنِّي كنت أصغره بعدَّة سنوات لم أستوعب ما قاله حينها، شعرت أنَّه كلام كبير يردِّده أولئك الذين يرتادون الجامعات كنوع من الثقافة الظاهرية -على الأقل-، لم يقل شيئا آخر بعدها، ظللنا صامتين نعبث بالثرى تارة، وبأغصان الشجرة تارة أخرى، شعرتُ بانقباضة في صدري، ربَّما لرَتابَة اللقاء على غير العادة، أو لأنَّ شيئا كبيرا قد سقط من قلب تميم آنذاك، أيقنت أنَّها النهاية رغم أنَّه لم يقل شيئا، وحتَّى لا أبكي، صمتُّ أنا أيضا حفاظا على كرامتي، ودِدْت أنْ لو حاول أحدنا فعل شيء ما، ففي العلاقات عموما يبقى الِانطباع الأول والأخير بازغين في ذهن كلِّ طرف، وبذلك اللقاء كانت ذكرى ضبابيَّة غير واضحة المعالم، ربَّما لا تحتاج إلى كثير جهد كي تُنسى، وغاب منذ تلك اللحظة عن عيني وانقطعت أخباره، عشت وقتا طويلا أبحث عن جديده من خلال معارفه، لكن ما الفائدة في حين أنَّه لم يكن يفعل؟! وبقي في ذهني هذا السؤال زمنا طويلا: أحقًّا كنت أستحِقُّ هكذا نهاية؟!

قبل عدَّة أعوام من هذا اللقاء التعيس كنت فتاة مَرِحة، ومُقبِلة على الحياة بكلِّ ما أوتيت من شغف، سنوات ثلاث تُمثِّل فارقا عمريّا بيننا، ليس لبعدها الزمني، بل لأنِّي كنت في المرحلة الثانوية، بينما هو في الجامعة، البون الشاسع بين المرحلتين من نضج يُخيِّل للناس أنَّ ثمَّة عمرا طويلا يمكث بين العمرين، كان هادئا، صموتا، وخجولا، وكنت مُشاغبة أداعب الحياة بأطراف ضحكتي التلقائية والعالية نوعًا ما، كان ثمَّة قاسم مُشترك بيننا؛ أنَّنا نحب القراءة إلى حدٍّ يجعلنا نستغرق في تلك العوالم المطبوعة بين دفتين، وننسى عالمنا الواقعي حتى تأتينا مقاطعة خارجية، فنستيقظ على مَضَض، لاحظ حبِّي للقراءة من خلال لقاءاتنا التي كانت كلُّها مَحْض صدفة في الموصلات، وقد لفتُّ انتباهه منذ ذلك الحين؛ هكذا أخبرني فيما بعد.

كنت أتصَيَّد نظراته التي تأكلني خلسة، فيذوب خجلًا، وأضحك أنا في صمت، بقينا على هذا الحال عاما كاملا، كنت قد تأثَّرتُ به حقّا، ثمَّة نظرة تُغرِقك حبّا واهتمامًا، نظرة تُخبِرك كلاما كثيرا، لكنَّه كان خجولًا حقًّا إلى حدٍّ يجعله من المُستحيل أنْ يُبادِر، فقلت في نفسي: سأمَهِّد له الطريق، وأكسب فيه ثوابًا!
كنت قد حفظتُ المواعيد التي نلتقي فيها صدفة، هذه المرة تعَمَّدت أنْ أنتظر بعيدًا، لنلتقي في صدفة مقصودة منِّي، لم أحمل في حقيبتي كتبًا يومها؛ لأنِّي سأطلب منه أن يُعيرني كتابه الذي بين يديه..

لو رأى أحد الخجل والفرح والدهشة التي رأيتها على وجه تميم حين طلبت منه الكتاب؛ لأحبَّه بصدق، الجميل فيه حقًّا أنَّه يُشبه نفسه فقط، وكانت هذه بداية لسلسلة منَ الِاستعارات فيما بيننا، ونقطة تحوُّل حقيقة لحُبِّنا الذي تحوَّل من صورة صامتة إلى أفعالٍ ومشاعر حقيقية، اكتشفت فيها أنَّ الحب يحوِّل الصخرة إلى حديقة غناء، وأنَّ غيرته يمكن أنْ تحرق الأرض بما فيها، وأنَّ في الصمت كلاما كثيرا وحديثا لا ينقطع.

كنَّا قدِ اصطلحنا على عصر يوم الجمعة من كلِّ أسبوع موعدًا لنا، هناك عند شجرة الزيتون المُنتصبة على نهاية الجرف الذي يفصل بين حقلنا وتلك البحيرة الصغيرة المُمْتدة على طول القرية، الهواء في هذه البقعة بالذات يختلف عن باقي هواء القرية، يبدو مُنعشا وطيِّبا، ربَّما كان للحبِّ يد في ذلك، فجعل الهواء هنا يبدو لطيفًا أكثر، وشاعريًّا أكثر..، كنَّا نتسامر، نتناقش، نضحك للحياة ولا نحمل لها همًّا، نُشاغِب الدنيا بكلِّ ما أوتينا من حبٍّ، نظلُّ هكذا حتى يُعلن قرص الشمس الأحمر مولد الليل، الليل موطن الحب والسهد، مسرح العشَّاق حين يأكلهم الشوق، يتوقون في هذا الليل الذي يبدو أن لا نهاية له إلى ذراع تمتدُّ لتضمَّهم بقوَّة.

حين يسألني أحد الآن عن أفضل مرحلة في حياتي، أجد ذاكرتي تجنح إلى هناك، إلى حبيبي الذي غادر دون مُبَرِّر، إلى شجرة الزيتون، والكثير من الحب الذي دفنَّاه هناك عمدا، وواصل كلُّ منَّا طريقه في مكان ما من الحياة؛ فهو قدِ ابتلعه زحام المدينة الذي ربَّما بدا في عينيه زاهيًا أكثر منَ اللازم، أو على الأرجح فتاة لا تُشبهني في شيء، أمَّا أنا فانغمست أيضًا في المدينة، لكن ليس لأنَّها لمعت في عيني، بل لأنِّي اندثرت في دوَّامة إثبات الذات، فما فعله بي تميم ذلك اليوم جعلني أشعر أنِّي قليلة جدًّا، ونكِرَة إلى حدِّ أن لا أحد يراني، نعم فقدت الثقة في نفسي وفي الناس في وقت ما، لكنِّي الآن أحتلُّ مركزًا مَرْموقًا، أسير شامخة، أينما يدبُّ كعب حذائي تأكلني العيون إعجابًا، لكنِّي أشعر بالِاختناق في هذه البيئة، أيُعقلُ أنَّها أكبر من حجمي، وهل وجد تميم بيئة على مقاسه؟!
عُدت إلى هنا بعد أعوام كثيرة، أعوام طحنتُ فيها قلبي عمدًا، وركضتُ، ركضتُ بكلِّ ما أوتيت من قوَّة؛ لأُنْهِك قلبي المُتشبِّث بشخص لا نخطر أنا وهو على باله، حمقى أولئك الذين يتعَلَّقون بماضٍ أدار ظهره عمدًا، ربَّما لو ترك لي تفسيرًا واحدًا آنذاك لنسيته بسرعة جنونيَّة، لكنَّه تركني لِاستفهامات تأكل قلبي بلا شفقة، وذهب ليجد بيئة تُناسِبه، وربَّما امرأة تُناسِبه أكثر منِّي..

عندما عدتُ كانت شجرة الزيتون قد اقتُلِعت من جذورها، بقيت أنظر إلى العمارة الشاهقة التي حلَّت مكانها في صمت وخذلان، ربَّما كانت تملك جوابًا يُبدِّد وحشة الماضي الذي يترصَّدني كلَّما خَلَوْت بنفسي، الشجرة اقتُلِعت من جذورها، وتميم اقتَلَع نفسه من تلك البيئة التي لا تُناسِبه، ووحدي هنا أنجرف للماضي، يمرُّ شريط الذكريات أمام عيني، فتاة بَضَّة الجسم، فاتنة العينين، وفتًى نحيل، وافر الطول، وكروان يَصْدَح في السماء، لون الغروب يلمع في أعينهم، ودهشة الحب ترسم على وجوههم ابتسامات لا تتوَقَّف..
أعود للحاضر الكئيب، ربَّما لأنِّي امرأة حالمة ورومانسيَّة أكثر منَ اللازم، لا تجذبني الحياة المُعلَّبة، تلك التي جذبت حبيبي ذات يأس، أخذتُ نفسًا عميقًا، وأنا أولي ظهري للعمارة، وقلت بهدوء ينمُّ عن أنِّي كنت وحدي المهزومة بالذكريات طوال هذا الوقت:
الآن، يجدر بي أنا أيضًا أن أقتلع الماضي من أعماقي.
وعدتُ للمدينة يبتلعني الزحام، وأتأرْجَح مع المُتأرْجِحين في دوَّامة الحياة.

إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"

المصدر :" almessa "

أخبار ذات صلة

0 تعليق

محطة التقنية مصر التقنية دليل بالبلدي اضف موقعك
  • adblock تم الكشف عن مانع الإعلانات

الإعلانات تساعدنا في تمويل موقعنا، فالمرجو تعطيل مانع الإعلانات وساعدنا في تقديم محتوى حصري لك. شكرًا لك على الدعم ??